حسام كنفاني / صحافي لبناني
ما تشهده المدن الفرنسية، وأقاليم ما وراء البحار، اليوم، من اضطراباتٍ وأعمال شغب، أكبر من مجرّد احتجاجاتٍ على مقتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية، نائل المرزوقي، برصاص الشرطة، فتمدّد حالة الغضب إلى أكثر من مدينة فرنسية ووصولها إلى جزر الكاريبي، التابعة للدولة الفرنسية، يشير إلى حالة احتقان وغليان كانت تحت الرماد، وحرّكها مقتل المرزوقي.
للاحتقان الذي انفجر اليوم في فرنسا أسباب عديدة، وتتحمّل مسؤوليته الدولة الفرنسية بالدرجة الأولى، إضافة إلى المهاجرين أنفسهم الذين يشكّلون أساس الحركة الاحتجاجية حالياً.
أعمال الشغب في فرنسا هي نتيجة تراكمية لكثير من السياسات الحكومية، والتي يمكن العودة فيها إلى عام 2005، حين اندلعت احتجاجات الضواحي، واستمرّت نحو ثلاثة أشهر، اعتراضاً على السياسات التمييزية للداخلية الفرنسية التي كان يتولاها في ذلك الحين نيكولا ساركوزي. حينها، أخمدت الاحتجاجات ولم تتغيّر السياسات، بل تفاقمت مع الصعود الكبير لليمين الفرنسي المتطرّف، والذي جاء ضمن الصعود الكبير لليمين الأوروبي. هذا الصعود تُرجم بممارساتٍ عنصريةٍ على امتداد الأراضي الفرنسية ضد كل ما هو أجنبي، وخرجت خطاباتٌ تحريضيةٌ واضحة تحذّر من خطر المهاجرين على “الهوية الفرنسية” و”مستقبل البلاد”. جاء هذا كله تحت أنظار الحكومة الفرنسية التي لم تحرّك ساكناً لضبط الحركات العنصرية بذريعة “حرية التعبير”، وهو ما ضاعف حالة الاحتقان بين الفرنسيين والمهاجرين.
وليس سرّاً أن سياسات الدمج التي تعتمدها فرنسا مع المهاجرين، القدامى والجدد، هي الأضعف على الصعيد الأوروبي، على عكس ما هو عليه الحال في بريطانيا وألمانيا، على سبيل المثال، فالتاريخ الاستعماري الكبير للأولى أسّس لديها خبرات كبيرة في احتواء المهاجرين، وابتلاع الثقافات المختلفة ضمن التركيبة البريطانية، من دون أن يعني ذلك غياب الموجات العنصرية التي تصعد وتخفُت، وفق الحسابات السياسية في البلاد. أما ألمانيا فسارعت مع موجات الهجرة الجديدة إلى محاولة الاستفادة من قدرات الوافدين الجدد، وتوظيفها في سد نقص الخبرات التي تحتاجها البلاد، ونظمّت دوراتٍ تدريبةً كثيرةً لأجل ذلك، وهي لا تزال منفتحة على احتواء مجموعات جديدة من المهاجرين لتلبية هذا الهدف.
اللوم في ضعف الاندماج لا يمكن أن يُلقى بشكل كلي على الحكومة الفرنسية، رغم تقصيرها في ذلك، بل يقع أيضاً على كثيرين من المهاجرين أنفسهم، خصوصاً القدامى منهم، والذين لا يزالون يصرّون على تعريف أنفسهم مهاجرين، رغم مرور ثلاثة أجيال على وجودهم في فرنسا، وهم حتى لا يحاولون إخفاء العداء للبلاد، لا سيما أولئك القادمين من دول أفريقيا والمغرب العربي، والذين كانت لهم تجربة مريرة مع الاستعمار الفرنسي، وحملوها معهم إلى الأراضي الفرنسية التي استوطنوا فيها، وتوارثوها جيلاً بعد جيل.
الانفجار الحالي في فرنسا وليد حالة من التراكمات لا تبتعد عنها أيضاً الأزمة الاقتصادية، والتي تجلت قبل أشهر قليلة في الحركة الاحتجاجية الكبيرة على قانون رفع سن التقاعد لدى الموظفين، والذي لم تنته مفاعيله، رغم تراجع حدّته في الفترة الأخيرة. غير أن خطر الموجة الحالية أكبر بكثير، خصوصاً مع بدء امتدادها إلى دول الجوار، وتحديداً بلجيكا. إلا أن الأخطر من ذلك، والذي بدأ في الظهور فعلياً على الأرض، تحوّل هذه الاحتجاجات إلى عنف مجتمعي، ففرنسيون كثيرون نزلوا إلى الشارع في الساعات الأخيرة لحماية ممتلكاتهم من عمليات التخريب والنهب، مزوّدين بالعصي والسلاح الأبيض، وهو ما قد يتحوّل إلى مواجهاتٍ أهليةٍ لا تُحمد عقباها.
حالة الاحتجاج والغضب الحالية قد تنتهي خلال أيام أو أسابيع، غير أن مسبّباتها ستبقى موجودة بانتظار فتيل إشعال آخر، في حال لم تتدارك الدولة الفرنسية الأزمة وتحاول إصلاحها.