قد لا يستطيع أحد أن يغمض عينيه عن الدمار المروع في قطاع «غزة»، وعن محو أكثر من نصف مبانيها ووحداتها السكنية ومدارسها ومساجدها وكنائسها، وعن حرب الإبادة الجماعية الهمجية وتقطيع الأشلاء، واستشهاد ما يزيد على عشرين ألفا من المدنيين العزل، نحو ثلثهم لا يزال مفقودا مدفونا تحت ركام الأنقاض، وأغلبهم من الأطفال والنساء، فوق الإفناء المنهجي الإجرامي للحجر والبشر، ونزوح مليون ونصف المليون إنسان من الشمال إلى الجنوب والوسط، والتوقف شبه الكامل لعمل المستشفيات والمرافق الصحية في الشمال بالذات، ونفاد أغلب موارد الحياة من الغذاء والدواء والكهرباء والوقود والمياه الصالحة للشرب، وعدم كفاية المساعدات الإنسانية لتلبية الحدود الدنيا من الاحتياجات العاجلة، رغم التحسن النسبي في تدفق شاحنات الإغاثة في أيام الهدنة، التي جرى تمديدها تباعا لأيام، تستأنف بعدها الحرب أهوالها.
وقد لا يصح أن نغفل عن ما جرى ويجري من مآسٍ مفزعة للفلسطينيين المدنيين العزل، لكن الوجه المأساوي الظاهر في قلب الصورة، لا يصح له أن يحجب، ولا أن يجور على جوانب البطولة الاستثنائية، ولا على الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في قلب المحرقة غير المسبوقة، ولا على عقيدة القتال المذهلة عند جماعات المقاومة، التي توالت انتصاراتها في ميادين الصدام وجها لوجه، وبمقدرة عبقرية وأسلحة مصنوعة ذاتيا، وحطمت كل الروايات المروجة عن قوة العدو الموهومة، ولم تكتف بما فعلته صباح هجوم السابع من أكتوبر المزلزل، بل واصلت الأداء الباهر في معارك الدفاع بعد الهجوم، رغم غياب أي معنى للتكافؤ الحسابي المادي العسكري، وعدم حيازتها لشيء مما يملكه العدو من طائرات ودبابات ومدافع وقنابل ثقيلة وسلاح بحري، أضيفت إليه أضعاف قوته بالمدد والجسور الجوية الأمريكية، وبالدعم الميداني المباشر من جنرالات وقوات النخبة الأمريكية والغربية عموما، وطلعات «الأواكس» والمراقبة اللحظية بتكنولوجيا أحدث الطائرات المسيرة، وأجواء الترهيب بحشد حاملات الطائرات والمدمرات النووية.
الوجه المأساوي الظاهر في قلب الصورة، لا يصح له أن يحجب جوانب البطولة الاستثنائية، ولا الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في قلب المحرقة غير المسبوقة
صمود اسطوري للمقاومة وغموض في اعلان خسائر العدو
وفي حروب الميدان «الغزاوي»، تهاوت كل أصنام القوة، ومن المسافة صفر القاتلة، توالى تحطيم مئات الدبابات والمدرعات وناقلات الجند بالغة التطور، وسقط المئات من ضباط العدو وجنوده في مدينة غزة ومخيماتها وجوارها، تكتم كيان الاحتلال على هلاك أغلبهم، واكتفى قبل الهدنة بإعلان مقتل أكثر من سبعين جنديا وضابطا «إسرائيليا»، ثم مع انكشاف الغبار قليلا في أيام الهدنة الموقوتة، اكتفى العدو بتسريب جانب من الحقيقة المغيبة، وأعلن عن جرح ألف ضابط وجندي «إسرائيلي» في معارك شمال «غزة»، بينهم أكثر من مئتين، أصيبوا بجروح خطيرة، وإجراء أكثر من 650 عملية بتر للأطراف، وسوف تكشف الأيام المقبلة عن مزيد من خسائر العدو، الذي تفر سراياه وقادتها من القتال الضاري، وتواصل انتقامها الجبان بقصف المدنيين العزل، وتحجب عن «الإسرائيليين» حقيقة ما جرى ويجري، وهو ما أكد المصداقية الفائقة لبيانات «أبو عبيدة» الناطق العسكري باسم «كتائب القسام»، وأحاديثه الواثقة الموثقة بالصوت والصورة عن الأعداد الهائلة من قتلى العدو ومصابيه، وتحديه لجيش الاحتلال أن يعلن الحقيقة، فيما لم تخف «حماس» ما أصاب مقاتليها، وأعلنت بوضوح وفخر عن استشهاد عدد من أعضاء مجلسها العسكري، وإحلال القادة البدلاء على الفور، واعتراف العدو نفسه بمحدودية خسائر «القسام» وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، وأن البنية التحتية العسكرية لجماعات المقاومة لم تصب بسوء يذكر، وأن شبكة أنفاق المقاومة ومدنها تحت الأرض لا تزال على كفاءتها وانتظامها، ومن دون أن تفقد قيادات المقاومة سيطرتها وتحكمها بكل ما يجري.
عملية التبادل وشهادات الرهائن كشفت زيف الرواية الصهيونية
وهو ما توالت أماراته الساطعة في عمليات تبادل الأسرى، التي فرضت فيها المقاومة شروطها كاملة، وأصابت العدو وحكومته وجيشه بما يشبه «جنون البقر»، وأظهرت انضباطها الصارم وتفوقها العسكري والأمني والأخلاقي، فلم يلحظ أحد ولا كشف واحدة من عمليات إطلاق «حماس» لسراح الأسرى وقت وقوعها، ولا من أين جاءوا بالأسرى المطلق سراحهم؟ إلا بعد أن تنشق الأرض فجأة عن فيديوهات مصورة، صنعتها «كتائب القسام» بحرفية واقتدار بارع، وأذاعتها بعد ساعات من عمليات الإطلاق، وقد تمت كلها على أرقى صورة ممكنة، وتنوعت أماكنها بين وسط وجنوب قطاع غزة، وحتى في شمالها، ومن قلب «ميدان فلسطين» في وسط مدينة غزة، وعلى مسافة أمتار من الدبابات «الإسرائيلية»، وبدت تصرفات المقاتلين المكلفين بعمليات الإطلاق مهيبة وبهية، تصرف المقاتلون بأريحية وثقة وهدوء سابغ، وبروح إنسانية مبدعة مثيرة للإعجاب، وسلموا الأسيرات والأطفال إلى سيارات الصليب الأحمر الدولي، ومن دون أن تغيب الابتسامة من وراء لثام الوجوه، وبدت علاقاتهم مع الأسرى المفرج عنهم، وكأنها علاقات صداقة ومودة وألفة مرئية، فلم يصب أي أسير «إسرائيلي» بخدش، ولا بدت على وجوههم علامات تعب في أسر الخمسين يوما، فقد عوملوا كضيوف لا كأسرى حرب، وتبادلوا تحيات الوداع مع مقاتلي ومقاتلات «القسام» على الهواء، ومن دون أن يعرفوا أين كانوا يقيمون وقت الأسر، وهل كانوا في بيوت فوق الأرض أم تحتها، وحملوا معهم مشاعر الامتنان لحراسهم الفلسطينيين وقت الأسر، واضطر العدو لحجب أسراه العائدين وراء الأسوار، ومنعهم من الكلام العلني في وسائل الإعلام، وإن تسربت انطباعات بعضهم إلى قنوات التلفزيون «الإسرائيلية»، وحكت إحداهن عن زيارة يحيى السنوار ـ قائد «حماس» في غزة ـ لها ولغيرها في مكان الحجز، وهو يجيد اللغة العبرية، التي تعلمها وقت سجنه الطويل السابق، وخاطبهم ببساطة آسرة، قال لهم «لا تخافوا.. فأنتم ضيوفنا»، ولم تستطع «إسرائيل» أن تفتح فمها بكلمة ولا بشبهة ادعاء إساءة معاملة تعرض لها أسراها، بينما هي تضرب وتعذب وتنكل بالأسرى والأسيرات الفلسطينيات، وهو ما بدا ظاهرا في شهادات المفرج عنهم والمفرج عنهن إلى منازلهم في القدس ومدن الضفة الغربية، وحرمان أسر المفرج عنهم وعنهن من الاحتفال بعودة ذويهم، وسرقة جيش الاحتلال حتى لعلب الحلويات، فقد كانت عمليات التبادل كاشفة لحضارة وثقافة كل طرف، وبان الفارق الهائل لصالح ثقافة الفلسطينيين العربية الإسلامية، وهكذا حققت المقاومة نصرها الإضافي «الثقافي»، بعد النصر المدوي في ميادين القتال، بينما بدت همجية العدو ووحشيته ودناءته وانحطاطه ظاهرة للعيان، وانكشف طابعه الإرهابي البربري اللصوصي المحض، وتفوقت الرواية والسردية الفلسطينية، المدعومة بالحقائق والصور وذكاء السلوك والتصرف ودقة الحساب البارع، بينما سقطت الروايات الصهيونية الكاذبة كلها، والمفبركة برداءة، حتى في عقول الجمهور الغربي المسيطر «صهيونيا» على سمعه وبصره ووجدانه لعقود، وتوسعت دوائر التعاطف مع الحق الفلسطيني والدم الفلسطيني، في مظاهرات حاشدة شارك فيها الملايين في عواصم الغرب الكبرى، وهو ما راكم ضغطا هائلا عل كثير من الحكومات، اضطر بعضها للتخفف من ذنوب وأعباء المساندة المطلقة العمياء لكيان الاحتلال الإسرائيلي ومذابحه، وتكرار الدعوات إلى وقف العدوان الوحشي.
استمرار العدوان يؤشر لفشل العدوان الصهيوني لتحقيق اهدافه
وفي الأيام المقبلة، سنرى على الأرجح عودة للحرب، ولكن بمعنويات أكثر انخفاضا لحكومة العدو وجيشه وجنرالاته المجرمين، وبثقة شبه معدومة يائسة من إمكان تحقيق أهداف معلنة، ثبت أنها غير قابلة للتحقق، فليس بوسع العدو مهما خرب ودمر، أن يقضي على حركة «حماس» وأخواتها، ولا أن يكتشف خرائط وألغاز الأنفاق، ولا أن يستعيد ما تبقى من أسراه بالقوة المسلحة، بل سوف تتضاعف خسائره البشرية العسكرية على الأغلب، وهذه هي نقطة ضعف العدو الكبرى في الحروب التي تطول، وهو ما بدا ملموسا حتى في تصريحات جنرالاته وقياداته، وزير حرب العدو يوآف غالانت مثلا، كان يقول في البداية، إنهم مستعدون للحرب لسنوات، وعاد مع بدء الهدنة المنقضية أيامها ليعدل أقواله، وقال إن الحرب قد تستمر لشهرين ـ فقط ـ بعد استئنافها، ما يعنى إدراكا فعليا متزايدا، بأن المهمة صارت أصعب، وأن قتال الخمسين يوما الأولى، قد ينتهي استئنافه حتى قبل مرور الخمسين يوما الثانية، وأن العدو قد يكتفي من الغنيمة بالإياب، وافتعال صورة نصر فشل في تحقيقه، بينما المقاومة العنيدة المقتدرة، تحمل في يدها كل أوراق النصر ومفاتيحه وآياته بإذن الله، وهي تعرف الطريق لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف جنود العدو وضباطه المذعورين، وكيف تضيف لكنز أسرى العدو العسكريين في المعارك، وكيف تفاوض وتضغط بما تملك، وكيف ترغم العدو على وقف شامل للعدوان ولإطلاق النار، وكيف تنتصر لشعبها على طريقة «الكل مقابل الكل»، وكيف تفرغ السجون «الإسرائيلية» من كل الأسرى الفلسطينيين .
آيات النصر الفلسطيني
38
المقالة السابقة