فتحي كليب مسؤول دائرة العلاقات الخارجية في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
ليس الوضع الراهن في قطاع غزه هو وحده الذي يترجم حقيقة الدعم الغربي للاحتلال الاسرائيلي، بل في كل عنوان من عناوين هذا الصراع في المنطقة، نعثر على عشرات النماذج للنفاق السياسي الغربي ولسياسة التكاذب في التعاطي مع قضايا العالم وقيمه القانونية والانسانية والاخلاقية، ومن قبل دول بعينها قدمت نفسها الى العالم باعتبارها راعية الديمقراطية وحقوق الانسان ومدافعة عن قيم الحرية والعدالة، لكن عندما يتعلق الامر باسرائيل، كونها قلعة متقدمة للغرب الامبريالي والاستعماري تنقلب موازين العدالة، وتصبح المعايير المزدوجة وغطرسة القوة والبطش هي ا بمصيرلمتحكمة بمصير شعوب العالم.
من ضمن هذه العناوين مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، التي ما زالت موضع رفض وتحفظ وممانعة من دول معينة تجاهر بدعمها للاحتلال الاسرائيلي، رغم مواقفها المعلنة لما يسمى فكرة “حل الدولتين”، وهنا يبرز التناقض واضحا ما بين المواقف المعلنة بدعم هذه الفكرة من الناحية النظرية ورفض ترجمتها واقعا على الارض لأسباب غير منطقية وغير مقنعة لا من حيث القانون ولا السياسة، وبالتالي لا يمكن تفسير هذا التناقض الا استجابة وتبعية للموقف الامريكي الاسرائيلي..
في 15 تشرين الثاني من عام 1988، اعلن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته 19 المنعقدة في الجزائر قيام دولة فلسطين بعاصمتها القدس. وعلى اثر هذا الاعلان تباينت المواقف الدولية بشأن الاعتراف بالدولة وشكله ومدى توافر الشروط لقيام هذه الدولة. بعض الدول اعترفت اعترافا قانونيا مباشرا، وبعضها الآخر فضّل صيغة الاعتراف السياسي نتيجة عدم اكتمال العناصر الضرورية لقيام الدول خاصة عنصر السلطة، لكن مع مرور اقل من عامين سجل اعتراف اكثر من 112 دولة ومنظمة دولية بدولة فلسطين المستقلة، وفي حينه سجلت ظاهرة لم يسبق ان حصلت سابقا، وهي ان حركة تحرر وطني تحوز على اعتراف دولي اكثر من الدولة التي تحاربها..
وبعد انشاء السلطة الفلسطينية زاد عدد الدول التي تعترف بفلسطين بشكل تدريجي، ليصل اليوم بعد اعتراف اسبانيا، ايرلندا، النرويج وسلوفينيا الى 148 دولة منها 13 دولة اوروبية، الدول العربية، معظم دول أفريقيا وآسيا بما فيها الصين والهند والعديد من دول أوروبا الوسطى والشرقية ودول أميركا الجنوبية.. بينما لا تعترف بالدولة الفلسطينية كافة دول مجموعة السبع وهي: الولايات المتحدة، كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا اليابان والمملكة المتحدة، اضافة الى 10 دولة اوروبية اخرى..
ان دول مجموعة السبع وعددا من الدول التي لم تعترف حتى الآن، ربطت اعترافها بمسار المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية المتوقفة منذ سنوات وبتطبيقات اتفاق اوسلو الذي انتهى من الناحية الرسمية منذ 4 ايار 1999، مع الاشارة الى تغير الاوضاع على الارض منذ بدء عملية المفاوضات لجهة اعادة احتلال اسرائيل لكل اراضي الضفة الغربية، مع ما رافقها من توسيع لعمليات الاستيطان وزيادة الممارسات الارهابية في الضفة التي هدفت الى القضاء على اي امكانية لقيام دولة فلسطينية سيدة على كافة اراضيها وعاصمتها القدس. وبعض الذرائع لتلك الدول ان شروط الاستقلال الفلسطيني ما زالت منقوصة..
ولهذه الغاية، فقد سبق للجبهة الديمقراطية وان تقدمت بمبادرة عام 1998 دعت فيها منظمة التحرير الفلسطينية باسم دولة فلسطين الى مبادرة لاعلان تجسيد سيادتها على كافة اراضيها المحتلة بعدوان عام 1967. وكان من شأن هذا الاعلان ان يغير قواعد الصراع ليصبح بين دولة محتلة اراضيها تصارع دولة غازية تحتل اراضي دولة اخرى، ويطلب من دول العالم تجديد اعترافها بهذه الدولة، خاصة وان ثغرة السلطة السياسية في اعلان الاستقلال قد توفرت، وباتت السلطة تمارس نوعا من السيادة القانونية والسيادة الفعلية على الأرض، وبذلك تكون الشروط الثلاثة قد توافرت لقيام دولة فلسطينية مستقلة غير مشكوك في قانونيتها..
الخلفية القانونية والشرعية الدولية لاعلان بسط سيادة دولة فلسطين على الاراضي المعترف بها دوليا كاراض فلسطينية يوفرها القرار الرقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة بتاريخ 29/11/47 والذي قضى بتقسيم فلسطين الى دولتين يهودية وعربية، بسطت الاولى سيطرتها على الارض بقوة العدوان والارهاب ودعم القوى الغربية في نيلها عضوية الامم المتحدة، وتم اغتيال الدولة العربية قبل ولادتها، بل قامت اسرائيل بعدوان آخر عام 1967 فاحتلت الضفة الغربية وقطاع غزه وما تبقى من مدينة القدس. ونتيجة لهذا الاجحاف الذي لحق بالشعب الفلسطيني، أصدرت الامم المتحدة وفي نفس التاريخ (29/11/1977) قرارها الشهير باعلان هذا اليوم يوما عالميا للتضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني، وتكريسه للنضال من اجل انهاء الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني.
نماذج تاريخية حية:
التاريخ مليء بالشواهد التي تؤكد طغيان الاعتبارات السياسية والاقتصادية على العوامل القانونية والانسانية. وعلى سبيل المثال فبعض الدول الغربية دعمت شعب جنوب افريقيا وحقه بالخلاص من نظام الفصل الغنصري لكنها ترفض ان يتخلص الشعب الفلسطيني من نظام الفصل العنصري الاسرائيلي. وفي استحضار تجارب التاريخ ايضا يتبين ان القوى التي دعمت فرنسا واستعمارها في الجزائر ووفرت الحماية لحكم الاقلية البيضاء في روديسيا (زيمبابوي) وفي مناطق اخرى، هي نفسها التي ما زالت توفر الحماية للفاشية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني..
وفي مقارنة بسيطة بين الموقف الغربي من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني ونضاله في الخلاص من الاحتلال الاسرائيلي ومواقفها من قضيتي جنوب افريقيا وروديسا فقط، فيبدو واضحا ان التاريخ يكرر ذاته في الكثير من التفاصيل:
– وفرت القوى الغربية الحماية السياسية والقانونية الكاملة للاقلية البيضاء ولنظام الفصل العنصري في كل من جنوب افريقيا وروديسا، ورفضت الادانات الدولية التي كانت تزداد ضدهما يوما بعد آخر. كما هو الحال بالنسبة لاسرائيل التي تحيا على المساعدات والدعم العسكري والسياسي والقانوني الغربي.
– فرضت الامم المتحدة مجموعة من العقوبات على نظام الاقلية البيضاء في روديسيا، واستخدمت بريطانيا حق النقض بذريعة ان الاقلية البيضاء لم تخالف القانون، بل اتهمت الامم المتحدة حينها بالانحياز. وحظي هذا الموقف بدعم من الولايات المتحدة، ألمانيا الغربية، فرنسا واليابان. وهذا ما يحصل اليوم حين يجتمع العالم على ادانة اسرائيل، فيما الولايات المتحدة توفر لها الدعم والحماية سواء عسكريا او عبر حق النقض في مجلس الامن..
– ينطبق الامر ايضا على قرار مجلس الامن الذي دعا الى فرض حظر على بيع الاسلحة الى نظام جنوب افريقيا العنصري، بينما دول غربية من بينها الولايات المتحدة والمانيا وبريطانيا.. رفضوا هذا القرار واستمروا في تزويد نظام بريتوريا بالسلاح. وهذا ما تم بعد عملية طوفان الاقصى لناحية عسكرة البحار والمحيطات من بوارج وسفن حربية غربية دفاعا عن اسرائيل وحمايتها من المحاكمة الدولية.
– دعا مجلس الامن في مناسبتين في الفترة بين عامي 65 و 70 الى عدم الاعتراف بالوضع المترتب على إعلان استقلال روديسيا من الأقلية البيضاء، وهذا ا كان سببا رئيسيا الى جانب اسباب اخرى في سقوط الاقلية حكومة ايان سميث. بينما قامت الجمعية العامة للامم المتحدة بترقية دولة فلسطين، واعتبار انها تملك الاحقية بالاعتراف، ودعت دول العالم الى الاعتراف بدولة فلسطين.
على المستوى القانوني:
– حصلت منظمة التحرير الفلسطينية على وضع “مراقب” في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22/11/1974 بموجب قرارها الرقم 3237، وفي 15/11/1988 صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني، “إعلان الإستقلال” الذي تبعه صدور قرار عن الجمعية العامة في 15/12 من نفس العام، تم بموجبه تغيير اسم منظمة التحرير الفلسطينية الى اسم “فلسطين”، وهو القرار الذي يأخذ علماً بإعلان الاستقلال ويؤكد على “ضرورة تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته على أرضه المحتلة منذ 1967″، حيث صوتت 104 دول لصالح هذا القرار.
– في عام 2012، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 138 على القرار رقم 67/19، والذي قضى بمنح فلسطين وضع دولة غير عضو مراقب، وذلك في 29 تشرين الثاني وهو نفس تاريخ صدور القرار 181 عام 1947 الذي ادى الى تقسيم فلسطين الى دولتين. واتاح الوضع الجديد لفلسطين إمكانية الانضمام لمنظمات دولية.
– في 10 ايار 2024 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 143 صوتا قرارا يدعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة، ويوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب بشكل إيجابي. ويمنح القرار فلسطين حقوقا وامتيازات إضافية تتعلق بمشاركتها بالأمم المتحدة ومنظماتها.
ان الاعترافات الدولية، خاصة من قبل دول كبرى، من شأنه ان يساهم في دعم مطلب نيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ويعزز أحكام القانون الدولي لجهة عدم احقية اسرائيل بأي جزء من الأرض التي احتلتها عام 67، وبأن احتلالها واستعمارها للأرض الفلسطينية هو غير قانوني وغير شرعي، وهو تأكيد على القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة في السابق وأكدت على حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير والدولة السيادية المستقلة..، اضافة الى كونه يحسم مسألة الدولة الفلسطينية ككيان سيادي وقانوني، ويعيد القضية الفلسطينية إلى منبع نشأتها، فيصبح القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية هي المرجعية لأي إتفاق لاحق وليس إشتراطات اسرائيل والولايات المتحدة وسياسات الامر الواقع.
ان دعم فلسطين وحرية شعبها وحقها في الاعتراف الدولي بوجودها وبسيادتها على ارضها، هو الحد الفاصل بين الحرية والعبودية، بين الانسانية والشهوانية الحيوانية، بين العدالة والقانون وشريعة الغاب، ولا مصداقية لعدالة دولية ولحقوق انسان في ظل مواصلة اسرائيل احتلالها للأرض الفلسطينية، وهو آخر احتلال على وجه الارض. لذلك فان دعم حق فلسطين في دولة حرة وسيدة فوق ارضها، متحررة من كافة اشكال القهر والوصاية والتبعية، هو الحد الادنى مما يمكن ان تقدمه دول غربية كبرى كانت سببا في نكبة الشعب الفلسطيني منذ العام 1948، وما زالت تكابر وتعاند في رفضها الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولة كباقي شعوب الاض..
ان شعب فلسطين الذي قدم من التضحيات ما لم يقدمه شعب في التاريخ، هو شعب جدير بالحياة ويعرف معنى الكرامة الوطنية، لم ولن يرفع راية بيضاء رغم كل ما تعرض له من مآس وفظائع انسانية على يد الصهيوني الذي جاء غازيا محتلا من كل بقاع الارض. نحن نراهن على ارادتنا وايماننا بحقنا بأرضنا، بحاضرنا ومستقبلنا، ونحن على يقين انه مهما كان الثمن باهظا ومرتفعا.. فالشعب الفلسطيني حتما على موعد مع الحرية..