ريما كتانة نزال- كاتبة فلسطينية
أكد استدعاء الشرطة لفضّ الاعتصامات الطلابية، في حرمَي جامعتَي كولومبيا وكاليفورنيا بالولايات المتحدة، على الفجوة الناشئة في أميركا، فجوة في الموقف السياسي ما بين التوجه الرسمي الداعم للاحتلال الإسرائيلي الاستعماري العنصري لحرب الإبادة على قطاع غزة إلى مستوى الشراكة، وبين موقف جيل الشباب متمثلاً بموقف طلبة الجامعات الرافضين للعدوان والمطالبين بوقف الحرب والحرية لفلسطين.
ومنشأ هذا الخلاف المتصاعد في أوساط الرأي العام سببه أنه المواطن الأميركي أصبح مؤخراً أمام روايتين متناقضتين ومتصادمتين؛ إثر الانزياحات السياسية التي يشهدها الرأي العام وحضور القضية الفلسطينية بقوة في الفضاء الأميركي، وردود الفعل على الممارسات الإسرائيلية وأدواتها الوحشية في مواجهة الشعب الفلسطيني والتنكيل به، بعد أن فتح الإعلام الاجتماعي نافذة بعثت الوعي الجمعي، وفتحت عيون الشباب على الحقيقة الكاملة التي طالما جهدت وسائل الإعلام الكلاسيكية والرسمية في التعتيم عليها مقدمة الرواية المزوّرة للسردية التاريخية، فجاءت الصحوة لتفجر الاحتجاجات الطلابية في فترة تعيش فيها أميركا سنة انتخابية تختار فيها رئيسها القادم، ومن المحتوم أنها ستنعكس بآثارها على التصويت.
ودون شك أن اندلاع الاحتجاجات في الجامعات الأميركية بهذا الزخم والامتداد فاجأ صانعي القرار ووضعهم في موقف لا يحسدون عليه، خصوصاً إدارات الجامعات التي تصرفت غالبيتها بطريقة لا تتفق مع مفهوم الحريات الأكاديمية التي كانت تتغنى بها، والتي وفقاً لها ولا سيما «إعلان ليما» للحريات الأكاديمية، فمن حق الطلبة التعبير عن آرائهم. ويمنع بموجب «إعلان ليما» آنف الذكر التدخل بالمجتمع الأكاديمي داخل حرم الجامعة؛ باعتباره حرماً محمياً وفقاً لبنوده واشتراطاته، وغيره من المواثيق ذات الصلة، وما حصل حقيقة عَرَّى إدارات الجامعات التي انتهكت الإعلان وسمحت للشرطة بانتهاك حرمتها وقمع الطلبة المحتجين سلمياً.
ودون شك، أن انتفاضة الجامعات الأميركية سيكون لها أثر على الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها نهاية العام الجاري، حيث يواجه الرئيس بايدن أزمة واضطراباً داخل الحزب الديمقراطي؛ بسبب مد إسرائيل بالسلاح، ومنحه الغطاء لانتهاكات الاحتلال، وتمويله الحرب، ما أدى إلى انتقاد موقفه من قبل أعضاء حزبه على خلفية موقفه ونهجه كمشارك فيها، معبرين عن مواقفهم بالاستقالة من الحزب أو إعلان مقاطعة الانتخابات أو رفض التصويت في الانتخابات الداخلية التمهيدية، واعتماد الأشكال الاحتجاجية المتاحة بالقانون كوضع الأوراق البيضاء أو الإعلان عن عدم الالتزام بمرشح الحزب أو انتخاب أسماء غير مرشحة، وجميعها أساليب مشروعة ومقرة في اللوائح الخاصة. أما منافسه دونالد ترامب، الذي يواجه أزمات قانونية متعددة، فإنه يحاول تجيير انتقادات الرأي العام لبايدن وإدارته لصالحه.
الحراكات الطلابية سيناريو مكثف يعكس مجريات التغيير على صعيد الناخب، كتلة بشرية واسعة ستقاطع الانتخابات، وستكون غزة أحد العوامل التي ستحرك تصويت الناخبين، رغم أنه من المعروف تاريخياً أن العوامل الحاسمة في حسم موقف الناخب من المرشحين والانتخابات تتوقف على السياسات الداخلية في برنامج المرشحين لجهة الخدمات الصحية والضمان الاجتماعي والضرائب وحق الإجهاض والمناخ، وغير ذلك من القضايا ذات الطابع الحقوقي، بينما لا يُبدي الناخب الاهتمام المماثل بالسياسة الخارجية في برامج المرشحين، إلا في حالة انخراط أميركا في حروب خارجية تتسبب في تكبيدها الخسائر الاقتصادية أو عودة الأبناء في النعوش.
الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية أثار مخاوف جهات عدة، منها مراكز القوى وأصحاب المصالح الذين انبروا للهجوم عليه والمطالبة بفضّه، إلى جانب دولة الاحتلال، وحكومتها برئاسة نتنياهو التي ضغطت على الرئيس بايدن ووزير خارجيته من أجل قمع الحراك وفضّه، حيث بات الحراك في الجامعات المرموقة يتوسع محلياً وخارج الحدود إلى أوروبا الغربية خاصة، وأصبح مثار قلق كونه يكشف العزلة التي تطوق إسرائيل أمام العالم، ويسلط الضوء على جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة وتعمق من صورة الدمار والتجويع والحصار في ذاكرة العالم، وتلطخ سمعتها الأخلاقية والإنسانية في نظر العالم.
ومن جانب آخر، اقتنص الحزب الجمهوري بقيادة ترامب الفرصة من أجل توظيف قمع الحراك في خدمة الهجوم على المرشح المنافس، مستخدماً الحراك الاحتجاجي كهراوة للانقضاض على الرئيس الفاقد للسيطرة، بغية توريطه في معالجة القضية بالقمع والعنف، مفاقماً من أزمة الحزب الديمقراطي، خاصة الجناح الليبرالي بشكل مباشر، وزاد الخطاب المغلق الذي أدلى به بعد فض الحراك من مأزقه، علاوة على الاعتقالات في جميع أنحاء البلاد، وزادت الفجوة بينه وبين الحراك الشبابي في الجامعات، خاصة في الولايات الزرقاء المحسومة انتخابياً لصالح الحزب الديمقراطي مثل نيويورك وكاليفورنيا، حيث أيّدت قياداته وأعضاؤه الإضراب، ما عمق عملية الفرز الداخلي في الحزب.
وبحسب الاستطلاعات، أظهر الاستطلاع الأخير، الذي أجرته CNN في 28/4/2024 حول الموقف من تعامل بايدن مع «الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة»، وافق 28% من المستطلعين على موقفه وأدائه، بينما رفضه 71% من المستطلعين، منهم 81% من الديمقراطيين و52% من الجمهوريين، وقد اعتبر أنه المعدل الأسوأ الذي يحصل عليه في الاستطلاع.
من الآن وحتى تشرين الثاني القادم موعد الانتخابات الأميركية، ستجري مياه كثيرة في نهر السياسة الأميركية الدولية والإقليمية، وربما تتغير النوازع والاعتبارات الانتخابية صعوداً وهبوطاً، ولكن حتماً ستكون حرب غزة وتداعياتها أحد العناوين البارزة التي ستنعكس بآثارها وصورها بوضوح على الناخب من ضمن العناوين والاعتبارات الرئيسة التي ستحسم صوته، خاصة الناخبين من فئة الشباب، كما ستكون الولايات التي تعتبر متأرجحة حاسمة في نتيجة المعركة الانتخابية كما جرت العادة، ومنها ولايات تشهد جامعاتها حراكات احتجاجية مثل ولاية ميتشغان وجورجيا وبنسلفانيا ونورث كارولينا، يقودها جيل جديد يتحدى السياسيين التقليديين ويطالب بالعدالة والحرية لفلسطين، وتتقلب أصواتهم على وقع تقلبات غزة على الموت والجوع والدمار.